المزيد  
الموت خارج أسوار الوطن
جهود مكافحة المحتوى الإرهابي عبر الإنترنت (فرص وعقبات)
سامو زين يوجه رسالة لبشار الأسد
أجواء رمضان بين الحاضر والماضي في سوريا
هل تتأثر سوريا بخلافات "التعاون الخليجي" الداخلية؟
قصة سوري فرقته الاتفاقيات عن عائلته
بعد بتر ساقيه صاحب المقولة المشهورة "يا بابا شيلني" يظهر بساقين بديلتين
هذا ما تطلبه المعارضة الإيرانية ضد الأسد وخامنئي

"وفاة موظف".. سُلطّة هشة تودي بحياة "موظف رائع"

 
   
12:00


أنطون تشيخوف

"هل علّة الأبدان وحدها هي التي تفضي بالإنسان إلى الموت؟ وهل يمكن أن تكون العلل النفسية أشد وطأة على المرء من نظيرتها البدنية إلى الحد الذي يجعلها تفتك بحياته؟ كيف يمكن الحياة في ظل رعب دائم من أيادِ عليا قد تبطش بالضعفاء إن أرادت وكيفما شاءت؟ وكيف تستحيل أبسط المتع الحياتية عندما يشعر الإنسان بالضآلة أمام ذاته وأمام الآخر؟".

تتدافع هذه الأسئلة إلى الذهن عند قراءة قصة أنطون تشيكوف "وفاة موظف" التي كتبها عام 1883 حينما كان لا يزال طالبا في الكلية الطبية في جامعة موسكو، إذ نشرها في واحدة من المجلات الساخرة  تدعى "اسكولكي: الشظايا". قرنان من الزمن مرا على قصة تشيكوف، إلا أن براعتها في الإيجاز وبساطتها في السرد جعلتها قابلة لتأويلات عدة حتى هذا الوقت، فرغم الأسلوب المباشر والعبارات القصيرة، الذي اتسم به تشيكوف في الكثير من قصصه، إلا أنها نجحت في أن تنفتح على آفاق متعددة.

ذات مساء رائع تنسج القصة أحداثها ببطء مشهدي، تعمد فيه تشيكوف أن يجعل القارئ وكأنه يشاهد حدثًا عابرًا سرعان ما ينجذب إلى تفاصيله، ومنها إلى البحث عن نهايته. يجلس إيفان، ذلك الموظف البسيط، في الصف الثاني في إحدى القاعات ليشاهد عرضًا ما، تخرج من فمه عطسة مفاجأة، على إثرها يكتشف أنه قد بلل رقبة الجنرال العجوز في الصف الأول، ليتملكه القلق الذي جعله ينفصل شيئًا فشيء عن العرض الذي كان يشاهده، ذلك القلق الذي ظل يباغته طوال ليلته، جعله يستشير زوجته فيما ينبغي فعله فتنصحه بأن يذهب ويعتذر له.

يتصاعد قلق إيفان من غضب الجنرال واحتمالية بطشه به، بشكل تتابعي على مدار القصة، التي لم تتجاوز ثلاث صفحات، إلى أن يصل حد الرعب الذي يتصاعد في كل مرة لا يبدي فيه الجنرال تفهمه للأسف أو قبوله، ذلك الرعب الذي يفضي في نهاية الأمر إلى الموت السريع والمفاجئ لإيفان.

يتجلى الأسلوب المباشر والمختزل بشكل واضح في المقدمة التي صاغها تشيكوف ببراعة، ففي جملتين قصيرتين ذكر أهم عناصر القصة التي ستبنى عليها الأحداث بشكل متتابع، فالزمن كان في إحدى الأمسيات التي حضر فيها إيفان ØŒ شخصية القصة الأساسية، عرضًا في مكان ما، لتتصاعد نبرة السرد تدريجيًا كاشفة عن مزيد من التفاصيل التي تجذب القارئ لمعرفة ما ستؤول له في النهاية تلك الأحداث. 

على لسان الراوي العليم تتابع أحداث القصة، فيسرد لنا ذلك الراوي رؤية إيفان للعالم ونظرته الضيقة التي باتت منحصرة في مدى رضا الرؤساء والمسؤولين عنه، لينقل لنا حالة الدونية التي يعيش فيها وبها إيفان، والتي كانت مرآة عاكسة لحياة طبقة بأكملها كان إيفان هو صورتها الأوضح، فهو "موظف لا يقل روعة" و شخص مهذب ينظر حوله ليرى إن كان قد أزعج أحدًا، وذلك في مقابل الصفات التي أبرزها الراوي عن الجنرال العجوز الذي هو "جنرال ولا يستطيع أن يفهم" و"متغطرس"، وهو في أول الأمر لا يتعدى كونه عجوزًا يحمل قدرًا كبيرًا من الضعف ورغم ذلك يبث فيه كل ذلك الرعب!

وهكذا يعمد تشيكوف إلى أن يكون الراوي مؤازرًا لإيفان وطبقته التي طالما عانت من بطش هؤلاء العجائز، من استبداد لطالما هيمن على مجتمعات بأسرها وجعلها لقمة سائغة في فم الأقوى والأكثر نفوذا وسلطة، ومن إنسانية تتآكل في خضم نفوذ طبقي مُهيمن لا يرى من أبراجه العاجية سوى نفسه.

"تمزق شيء ما في بطن تشرفياكوف، ومات".. هكذا تنتهي القصة بموت إيفان رعبًا من بطش قد يطاله من "غريب" لا يعرفه لكن سلطته وقوته ربما لن تخطأ طريقها إليه يومًا ما وتقذف به إلى الهاوية، نهاية صادمة ومفارقة تحمل الكثير من السوداوية إلا أنها ربما تشكل صدمة لقارئ لم يفكر يومًا فيما يعنيه أن يكون المرء موظفًا على هذا القدر من الروعة.

(اقرأ أيضا: "سقوط العالم الإسلامي".. نظرة حامد عبدالصمد لمستقبل العالم العربي).