المزيد  
واشنطن تؤكد استعدادها لدعم تركيا فيما يخص إدلب
ميلشيا الحشد الشعبي العراقي يرسل مقاتليه إلى خطوط الجبهة في إدلب
عميد كلية الطب بدمشق: أكثر من 150 ألف حالة إصابة بـ "كورونا" في دمشق وحدها
بينهم قتلى من الحرس الثوري.. غارات على مواقع للميليشيات الإيرانية بدير الزور
ميشيل عون: وجود السوريين في لبنان "عبئاً كبيراً" .. ونطلب مساعدة "الهجرة الدولية" لإعادتهم
آلاف العناصر من "داعش" لا يزالون يتحركون بحرية تامة بين سوريا والعراق
مشافي حلب تعاني من نفاد أكياس الجثث بسبب فيروس "كورونا"
وفد المعارضة لـ "أنا برس": تم إلغاء أعمال اللجنة الدستورية بسبب اكتشاف 3 حالات بـ "كورونا"

أنطون المقدسي.. شيخ الفلاسفة الوطنيين

 
   
09:12

http://anapress.net/a/128896161495972
1088
مشاهدة


أنطون المقدسي.. شيخ الفلاسفة الوطنيين

حجم الخط:

في الوقت الذي يختار فيه بعض المفكرين أو المثقفين الانزواء في أبراجهم العاجية بعيدًا عن المشاحنات الجارية حولهم، وقيامًا بالدور الذي يعتقدون بأولويته في التنظير وتقديم الأبحاث أو المؤلفات، صنفٌ آخر من  المفكرين كان لديه يقين بأن الفكر لا يمكن أن ينعزل عن الحياة وأن دورهم يتعدى الكتابة إلى مشاركة فعلية ومؤثرة في الحياة العامة. 

مع بدايات ربيع دمشق، وجّه المفكر والفيلسوف السوري أنطون المقدسي رسالته الواضحة والجريئة إلى بشار الأسد، والتي قال له فيه " الوضع العام، وباختصار يا سيدي: انهيار عام، سياسي واقتصادي وأيضاً ثقافي وإنساني.. كفانا يا سيدي من الكلام الفضفاض: مكاسب الشعب، انجازات الشعب، إرادة الشعب. الشعب غائب يا سيدي منذ زمن طويل، إرادته مشلولة تقوم اليوم على تحقيق هدفين: الأول على الصعيد الخاص، أن يعمل ليلاً ونهاراً كي يضمن قوت أولاده. والثانية على الصعيد العام، أن يقول ما يُطلب منه قوله، وأن يتبنى السلوك الذي يُطلب منه".

على إثر تلك الرسالة أُجبر المقدسي على تقديم استقالته من منصبه الذي كان يشغله بالتعاقد في وزارة الثقافة، ليتفرغ لأعماله الفلسفية والفكرية. تلك ليست الضريبة الوحيدة التي دفعها المقدسي جراء جرأته وعمله؛ إذ كانت حياته سلسلة من التحديات والنضال التي اختتمت برحيله عام 2005 تاركًا خلفه إرثًا من التاريخ والمؤلفات.

حياته

 ولد أنطون المقدسي عام 1914في مدينة يبرود شمال العاصمة دمشق، درس الحقوق في الجامعة السورية، ثم ذهب إلى فرنسا لدراسة الفلسفة الإغريقية وعلم الاجتماع ليحصل على إجازة في الفلسفة وشهادة في الأدب الفرنسي من فرنسا.

عمل في تدريس الفلسفة وعلم النفس عقب عودته إلى سوريا في عدد من المدارس، كما اكمل دراسته للحقوق ودرس العلوم السياسية من مدرسة الحقوق الفرنسية في بيروت، ومنذ العام 1965 عمل في وزارة الثقافة السورية حتى عام 2000، كما عمل محاضرًا في كلية الفلسفة وكان أحد كتبه يدرس في المرحلة الثانوية.

نال المقدسي عددًا من الجوائز منها جائزة الأمير كلاوس، وجائزة وزارة الثقافة من سوريا، جائزة "عامل" في حقل الإبداع الأدبي والفكري من أجل نشر الثقافة في فرنسا والعالم.

نشاط سياسي

في أواخر الأربعينات، لعب المقدسي دورًا هامًا الحركة الشعبية السورية من خلال زياراته للقرى وتوعيته لعامة الشعب بضرورة المطالبة بحقوقهم وأهميتهم في تغيير مصيرهم. وفي وقت لاحق كان المقدسي من مؤسسي حزب الاتحاد الاشتراكي بزعامة أكرم الحوراني، كما ساهم في كتابة وثيقة اندماج هذا الحزب مع "حزب البعث العربي" ليصير اسمه "حزب البعث العربي الاشتراكي".

غادر المقدسي النشاط السياسي بعدما وصل الحزب إلى السلطة ليتفرغ لعمله الفكري في كتابة دراسات فكرية وتاريخية وفلسفية.

مؤلفاته

صدر للمقدسي عدد من المؤلفات في حقول مختلفة؛ وإن كان له الكثير من المقالات التي تجاوزت مائة صفحة ولم ينشرها في كتاب، ومن مؤلفاته: "حرب الخليج، اختراق الجسد العربي" وهو مقالة كتبها المقدسي لمجلة "الناقد"، "فاسا جيليزنوفا" تأليف: مكسيم غوركي، ترجمة: أنطون المقدسي، "مبادئ الفلسفة: مشكلة المعرفة"، تأليف: أنطون المقدسي، "المسألة القومية على مشارف الألف الثالثة: دراسات مهداة إلى أنطون مقدسي" والذي شارك فيه بمقالة كبيرة عنوانها "إشكالية الأمة"، "الأستاذ" إعداد وتقديم د.علي القيم، مجموعة مقالات لأنطون المقدسي معظمها في مجلة المعرفة.

أفكاره

 

 الفلسفة بدأت مع مشكلة العدالة مع أفلاطون اذي حرضه موت سقراط على البحث عن تنظيم المدينة
 المقدسي

يشرح المقدسي رؤيته لمفهوم المجتمع المدني في أحد مقالاته قائلا: "المجتمع المدني لم يظهر في الغرب إلا في أواخر القرن التاسع عشر، وقام على نظام إقامة البلديات، البلدية هي حكومة المدينة، وإذا تضخمت المدينة قُسِّمَت إلى إمارات، مدينة باريس مثلاً 20 حارة، وكل حارة لها بلديتها التي تنتخِب رئيسها الرمزي (وبالمناسبة نحن لا نزال نأخذ بنظام البلدية العثماني، مع أن تركيا تركته). المجتمع المدني إذاً يقوم على البلدية، بلدية منتخبة مباشرة من الشعب، فرئيس البلدية والبلدية ليسوا موظفين بل أعضاء في المدينة لهم دور سياسي، المحافظ له وظيفة، مدير المنطقة له وظيفة، أما البلدية فليست وظيفة، هي كيان سياسي، وهذا هو بالضبط المجتمع المدني، كيان سياسي ينظم كل أمور المدينة، المدارس، الطرق، المواصلات، علاقات الناس ببعضهم، وكل ما يخص الناس هو من تنظيم البلدية. لذلك نجد لانتخاب البلديات في أوروبا من الأهمية ما لانتخاب البرلمان".

وتحدث المقدسي عن الإشكاليات التي تواجه الفكر العربي ومنها إشكالية التقليد بصفة عامة وليس تقليد الغرب فقط؛ فالفكر العربي يقاد إلى الأحداث ولا يقودها، وفي مقالاته أوضح المقدسي أن الفلسفة بدأت مع مشكلة العدالة مع أفلاطون الذي حرضه موت سقراط على البحث عن تنظيم المدينة. وفي مقاله "المثقف العربي والديمقراطية" أكد المقدسي على أهمية الثقافة ودور المثقف؛ فإن ضعفت الثقافة استسلم المثقف لعاداته وحولها إلى أصنام مع القول بأن الثقافة تعريفا هي اغناء العقل بحيث يمكن الحكم بالسرعة اللازمة على قيمة وضع أو إبداء الرأي بشأنه. والسبب في بؤس هذه الأمة هو بؤس المثقف، كما أنها صلة الوصل بين الحاكم والشعب.

أكد المقدسي في كتاباته أن الديمقراطية تحدث نتيجة التربية العقلانية السليمة والثقة بالحاكم، وإنها لا تتأسس إلا بإرساء فن الإصغاء للرأي الآخر أولا، والتسليم ثانيا بأن الحقيقة الإنسانية حصيلة جهد مشترك قد يمتد أجيالا، وأن الرأي الإنساني نسبي، فرديا كان أو جماعيا. أي فك الارتباط بين الحقيقة الإنسانية والمطلق. ورابعا ضرورة تقديم إقامة العلائق الاجتماعية بين الحاكم والمواطن على أسس موضوعية الناظم لها هو التشريع والقيم والمعاني الإنسانية الناظمة لفعالية جماعة ما.

وأوضح المقدسي أن أزمة الديمقراطية الأساسية كامنة لدى المثقف الذي يقع في إغراء السلطة، وفي تكوين الشعب لافتًا إلى أن السياسي لا يثق بالمثقف رغم سرقته الايديولوجيا من المثقف وحكمه باسمها.

قالوا عنه

 

الديمقراطية تحدث نتيجة التربية العقلانية السليمة والثقة بالحاكم.. وإنها لا تتأسس بإرساء فن الإصغاء للرأي الآخر أولًا
 المقدسي

المفكر الراحل أحمد حيدر قال عن المقدسي "أنطون المقدسي كان أكثر من أكاديمي، أكثر من مدرس فلسفة، كان فيلسوفاً شخصانياً يعتبر العلاقة الشخصانية أو العلاقة الذاتية أساساً: علاقة الحب أو الكراهية أو اللامبالاة، وبتعبير أدق: موقف التخارج والانفتاح على الوجود، أو موقف الانغلاق على الأنا، الأول هو موقف الحب والثقة بالآخر وبالوجود، والثاني هو موقف الشعور بعدم الأمن وبالتالي تجنب الصميمية أو الانفتاح، والاعتصام بالحذر وسوء الظن إلى درجة (البارانويا). إن أنطون المقدسي قد عاش عصره وتفاعل معه وعانى مشكلاته، وفي مقدمتها: بؤسه العدمي، ذلك المرض القاتل الذي ينبغي الشفاء منه بالحب، فالحب والعدمية على طرفي نقيض، الأول يمثل الانفتاح والثانية تمثل الانغلاق الذي يهيمن على عصرنا.

ولكن أنطون مقدسي يراهن على ميتافيزيقا الحب التي تشخصن الإنسان، وتساعده على الانفتاح. وبمقدار سخائنا في بذل الحب للآخر، نسمو بإنسانيتنا. وأن نكون قادرين على أن نجلس في علاقة حقيقية مع كائن إنساني آخر، يساوره قلق عميق أو شعور بالذنب، أو يعاني مأساة معلقة فوق رأسه، فإن هذا الموقف يعتبر أسمى ما في إنسانيتنا جميعاً. وهذا ما يجعلنا نؤكد على أهمية التلاقي (اللقاء الصميمي أو الحميم مع الآخر) بدلاً من مجرد علاقة.

وهكذا يكون رهان أنطون المقدسي على ميتافيزيقا الحب أو فلسفته، قائماً على أساس راسخ، فالحب ينبغي أن يقهر العدمية إذا كان للإنسان مستقبل".

أما أستاذ الفلسفة يوسف سلامة فقال عنه: " لقد كان أنطون المقدسي يعيش دهشة دائمة ممتزجة بنوع من السخرية المهذبة التي تذكر بسقراط، وإن كان للمقدسي نكهة سورية يبرودية خاصة تخلع عليه طابع الفيلسوف الحق الخارج من بيئته والمنتج لأفكاره انطلاقاً من ذاته وعصره وأمته.

وقد تطور فكر أنطون مقدسي على نحو لافت للانتباه على امتداد ستة عقود أو يزيد. ومن هنا فإن ما قد يبدو تناقضاً بين أفكار أنتجها في البداية، وأخرى أنتجها في المراحل التالية من حياته، ربما لم يكن هذا إلا نوعاً من التكامل والنمو الذي لا بد للفيلسوف الحق من أن يمر به ويعانيه، تجربة حية متجددة على مر السنين والأيام.

لقد كان المقدسي فيلسوفاً بحق، خرج من التراب السوري وعاد إليه، وما عودته تلك إلا نذيرٌ بانبجاس أفكاره في صورة أخرى. لعلها أن تكون أكثر تقدماً في "النبوات" القليلة التي ربما كان المقدسي على إيمان بأنه قد أنتجها قبل أن يزفر زفرة الفلسفة الأخيرة، زفرة الغضب، زفرة النقد، زفرة عدم الرضى على كل شيء".

أتكلم شهادة محبة وتقدير وعرفان نحو الإنسان الذي كان أول من تعلمت منه الخطوة الأولى في عالم الفلسفة، وفي تيارها الجارف، يوم كنت لاأزال في المدرسة الثانوية وإنني لأشعر اليوم، وأنا أستاذ جامعي، عندما أتذكر رحيل الأستاذ، أنني منشدّ إلى تلك اللحظة الأولى، اللحظة البكر التي قادني إليها أنطون مقدسي بمحبة الأب وحكمة الفيلسوف وصبر المعلم