المزيد  
واشنطن تؤكد استعدادها لدعم تركيا فيما يخص إدلب
ميلشيا الحشد الشعبي العراقي يرسل مقاتليه إلى خطوط الجبهة في إدلب
عميد كلية الطب بدمشق: أكثر من 150 ألف حالة إصابة بـ "كورونا" في دمشق وحدها
بينهم قتلى من الحرس الثوري.. غارات على مواقع للميليشيات الإيرانية بدير الزور
ميشيل عون: وجود السوريين في لبنان "عبئاً كبيراً" .. ونطلب مساعدة "الهجرة الدولية" لإعادتهم
آلاف العناصر من "داعش" لا يزالون يتحركون بحرية تامة بين سوريا والعراق
مشافي حلب تعاني من نفاد أكياس الجثث بسبب فيروس "كورونا"
وفد المعارضة لـ "أنا برس": تم إلغاء أعمال اللجنة الدستورية بسبب اكتشاف 3 حالات بـ "كورونا"

مظفر النواب.. شاعر الغُربة والتمرد

 
   
16:26

http://anapress.net/a/132160885582627
1344
مشاهدة


مظفر النواب.. شاعر الغُربة والتمرد

حجم الخط:

لا يضع الموت كلمة النهاية دائمًا. ثمة خالدون ظلوا وسيبقون في الذاكرة وفي الحياة حتى وإن غيّبهم الموت، وحتى لو أرهقهم المرض وتناوبت عليهم شائعات الوفاة المقيتة، ستظل أعمالهم الخالدة بديلًا عن أجسادهم الغائبة أو المنهكة. 

مظفر النواب الذي عاش طيلة حياته ثائرًا ومتمردًا وشوكة في حلق حكام عرب فاسدين ومفسدين، ابتعد مؤخرًا عن الجود بالشعر لظروفه الصحية المتدهورة، إلا أن شائعات موته تلاحقه باستمرار، وسرعان ما يظهر النفي بقول المقربين منه: "مظفر النواب حي يرزق".. وهي عبارة تتكرر في كل مرة تطلق فيها شائعات حول وفاة الشاعر العراقي البارز تبث الطمأنينة في قلوب محبيه، الذين وإن كانوا يعلمون أنه يعيش راهنًا تحت وطأة ظروف صحية صعبة، إلا أن مجرد التفكير في رحيله يمثل فاجعة لأجيال عربية تعلمت منه الثورة والمعارضة والرفض، عاشت مع كلماته البذئية أحيانًا وعباراته الجريئة دومًا عمق الشعور ببذاءة ما يجري على أرض الواقع الذي لا تكفيه كل كلمات السباب لتغييره. (اقرأ أيضًا: عاش "صادق".. رحيله "عَظُمَ".. و"جلال" فكره يخلده).

تمرد الشاعر

لم يكن النواب خاضعًا في شعره للأعراف والقوانين الاجتماعية، اختار دوما ألا ينصاع للمعايير الأخلاقية والمجتمعية، كان يردد: "يتهمني البعض بأني مبتذل وبذيء، اعطني موقفا أقل بذاءة مما نحن فيه"  كلما استنكر أحد نقده اللاذع، كتب الشعر محملًا بهمومه السياسية والإنسانية فخرج في أصدق صوره وأكثرها تعبيرًا عن تجربته في الحياة في كل  المناحي.

تميزت أشعار مظفر النواب بفظاظتها وقسوتها في نقد الظواهر والأنظمة السياسية العربية،  كان لشعره الهجائي تأثير واسع على القراء العرب خصوصًا في قصائده عن القدس، ومن أشهرها قصيدة "القدس عروس عروبتكم" التي يهجو فيها تفريط الحكام العرب في القضية الفلسطينية: "القدس عروس عروبتكم/فلماذاأدخلتهم كل زناة الليل إلى حجرتها/ ووقفتم تسرقون السمع وراء الأبواب/لصرخات بكارتها/وسحبتم كل خناجركم وتنافختم شرفا/وصرختم فيها أن تسكت/صونا للعرض.. لست خجولا حين أصارحكم بحقيقتكم/إن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم/تتحرك دكة غسل الموتى/أما أنتم لا تهتز لكم قصبة..

لا تزال قصائد مظفر النواب السياسية صالحة لضرب الأمثال رغم انتهاء المناسبة التي ألقيت فيها. كان لها صدى قويا بين جمهور النواب ومحبيه، ومن أبرز قصائده السياسية قصيدة "قمم": يا قمة الأزياء/ يا قمة الأزياء/ سُوّدت وجوهكم/ من قمةٍ" في هجاء الحكام العرب، وقصيدته "الخوازيق" التي ينتقد فيها الوضع العربي وفيها يقول: "وأرى خوازيقا صنعن على مقاييس الملوك/ وليس في ملك وخازوق ملامة/ لله ما تذر البنادق حاكمين مؤخرات في الهواء/ ورأسهم مثل النعامة/ ودم فدائي بخط النار يلتهم الجيوش/ كما الصراط المستقيم به اعتدال واستقامة/ لم ينعطف خل على خل كما سبابة فوق الزناد/ عشي معركة الكرامة/ نسبي إليكم أيها المستفردون/ وليس من مستفرد في عصرنا إلا الكرامة". (اقرأ أيضًا: برنارد لويس.. مؤرخ الشرق الأوسط).

في قصيدة بعنوان “رب الحجر” يقول النواب: “ارم رب الحجر/شلت مدرعة تحت صليات عينيك تلتظ نابض نار/ ارم قبلت كفك وجهاً وظهراً/ زرائبنا لم تزل تتثاءب/ لا سيما انتشر الآن داء البقر/ ارم أنت يد الله/ ألق الحجارة الجحيم/ تآمرهم ضد وعي الحجارة لا يغتفر”.

ثمة جانب عاطفي في بعض قصائد النواب لم تنل نفس الشهرة التي حظيت بها قصائده السياسية ومنها: في قصيدة "ثلاثة أمنيات على بوابة السنة الجديدة": مرّة أخرى على شُبّاكنا تبكي/ ولا شيء سوى الريح/ وحبّاتٌ من الثلج.. على القلب/ وحزنٌ مثل أسواقِ العراق/ مرّة أخرى أمدّ القلبَ/ بالقربِ من النهر زُقاق/ مرّة أخرى أحنّي نصف أقدام الكوابيس بقلبي/ وأضيء الشمع وحدي. وفي مجموعة "وتريات ليلية": في تلك الساعة من شهواتِ الليل/ وعصافير الشوك الذهبية/ تستجلي أمجاد ملوكِ العرب القدماء/ وشجيرات البَرِّ تفيح بدفء مراهقةٍ بدوية/ يكتظ حليب اللوز/ ويقطر من نهديها في الليل/ وأنا تحت النهدين إناء.

غُربة دائمة

يتعرض النواب لجوانب من سيرته في حوار أجراه معه سنان أنطوان في مجلة "الدراسات العربية" عام 1996 بقوله: خرجت العائلة من الجزيرة إلى العراق، وفي أيام اضطهاد العبّاسيين رحلت إلى منطقة كشمير في الهند وحكمت جانباً من المنطقة. بعدئذ، بعد دخول البريطانيين، كانت هناك مقاومة وتم نفيهم. وخيروهم فعادوا إلى العراق لوجود العتبات المقدّسة ولأنهم قدموا من العراق أصلاً. فمنذ الصغر ونحن نسمع عن هذا التاريخ: الانتقال والرحيل والنفي. وجئنا نحن لنكمل (يضحك). طبعاً، كل هذا له تأثير. وكان هناك كره للبريطانيين بالذات.

ومما يقال أيضاً إنّه طلب منهم المشاركة في بداية تشكيل السلطة ورفضوا. وهناك طقس يقام سنوياً هو مواكب كربلاء وعاشوراء. كانت هذه المواكب تأتي إلى البيت. كنا نمتلك بيتين كبيرين، بيت جدي وبيت أخيه، مفتوحين على بعضهما البعض وكانت هناك أبواب ضخمة. . كانت المواكب تأتي وتدخل البيت بمشاعلها والخيل وماء الزهر والأعلام والسلاسل التي يضربون أنفسهم بها. كنت صغيراً وقسم من هذا لا أعيه لكنه يحكى أمامي. والقسم الأخير أعيه بشكل ضبابي. فمنذ البداية كان هناك تأثير للعطور وماء الزهر. كان بيتاً شرقياً والطوابق العليا مليئة بالنساء. لا ترى حولك إلا كتلاً سوداء. وعيون ودموع، طبعاً، وبكاء. وفي الداخل الألوان والأعلام والصناجات التي يضربوها. وكانوا يقومون بتمثيل معركة كربلاء. ويقولون لي أيضاً إنّه كان هناك طفل يقتل في المعركة وهو عبد الله الرضيع، وكنت أنا الشبيه وكانوا ينزلونني لأمثل دوره. طبعاً لا أتذكّر لأنني كنت طفلاً صغيراً. لكن هذه الأشياء لعبت، بشكل غير واع، دوراً أساسياً في التلوين والإيقاع والشعر، أو فلنقل التنغيم، تنغيم الإنسان وموسقته.

انضم النواب أثناء دراسته الجامعية للحزب الشيوعي العراقي، وعين بعد التخرج في مدرسة متوسطة سرعان ما تم فصله منها بسبب انضمامه للحزب. في عام1956 كتب قصيدته العامية الأولى" الريل وحمد" التي نشرت في مجلة "المثقف" وأحدثت ضجة كبيرة آنذاك.. وفيه يحكي قصة حقيقية حكتها له إحدى الفتيات الريفيات التي التقاها في القطار.

عمل النواب كمفتش بوزارة التربية في بغداد عام 1958، إلا أنه فر من العراق إلى إيران عام 1963 بعدما اشتد الصراع بين القوميين والشيوعيين وتعرض الشيوعيون للمحاكمات ثم حاول العبور إلى روسيا إلا أنه تم إلقاء القبض عليه على الحدود الإيرانية الروسية وأعيد إلى إيران وتم إخضاعه للتعذيب على أيدى جهاز الأمن الإيرانى، وهو ما كتب عنه في قصيدته "بكائية على صدر الوطن": في طهران وقفت أمام الغول/ تناوبني بالسوط.. وبالأحذية الضخمة عشرة جلادين/ وكان كبير الجلادين له عينان/ كبيتي نما أبيض مطفأتين/ وشعر خنازير ينبت من منخاريه/ وفي شفتيه مخاط من كلمات كان يقطرها في أذني/ ويسألني: من أنت/ خجلت أقول له "قاومت الاستعمار فشردني وطني".

 في أواخر تسعينات القرن الماضي اختار النواب العيش في دمشق، أصيب بمرض “الشلل الرعاشي”، وفي 2011 عاد إلى بلده العراق بعد أربعين عاماً من التنقل ما بين المنافي

 بعد ذلك، تم تسليمه إلى العراق وهناك جرت محاكمته محاكمة عسكرية، وطلب المدعي العام العسكري الحكم عليه بالإعدام إلا أنه تم تخفيف احكم للسجن المؤبد وحكم عليه بثلاث سنوات أخرى بسبب قصيدته "البراءة". نقل النواب إلى سجن نقرة السلمان الصحراوي ثم إلى سجن الحلة في جنوب بغداد إلا أنه خرج عام 1967 مع مجموعة من السجناء، وفي عام 1968 وبعدما صدر عفو عام عن الهاربين، عمل النواب في سلك التعليم مرة أخرى إلا أنه تم اعتقاله بعد حدوث عمليات اغتيال لعدد من الشيوعيين المتعاونين مع السلطة ثم أفرج عنه. (اقرأ أيضًا: "من النهضة إلى الردة".. تحليل جورج طرابيشي لأزمات الثقافة العربية).

تنقل النواب ما بين دول عربية؛ مكث شهورًا في بيروت ثم في دمشق والقاهرة وسافر إلى إريتريا وتنقل في رحلاته ما بين دول عدة غربية وسافر إلى فرنسا وهناك سجل لدرجة الماجستير حول القوى الخفية في الإنسان كما أصدر هناك ديوان "وتريات ليلية"، وفي عام 1982 حينما اندلعت الثورة فى إيران سافر إلى طهران ومنها إلى الهند وبانكوك ثم عاد إلى اليونان.  أقام أمسيات شعرية فى الجزائر وليبيا والسودان وأمريكا اللاتينية

بدأت علاقة النواب بالشعر باكرًا، فقد تأثر بحب جده للشعر، بدأ في محاولات نظم الشعر في المرحلة الابتدائية ثم بدأ النشر في مجلات الحائط في مراحله الدراسية التالية. استطاعت كتاباته الشعرية أن تجتذب قطاعات كبيرة من الجمهور خصوصًا مع لجوئه لتسجيل جزء كبير من قصائده . 

في أواخر تسعينات القرن الماضي اختار النواب العيش في دمشق، أصيب بمرض “الشلل الرعاشي”، وفي 2011 عاد إلى بلده العراق بعد أربعين عاماً من التنقل ما بين المنافي.  كان النواب يردد أن دمشق هي أحب المدن العربية إلى قلبه، تحدث عنها في قصيدته "اللون الرمادي": "دمَشقُ عدتُ وقلبي كُلُهُ قُرَحٌ وأينَ كانَ غريبٌ غيرَ ذي قُرَحِ؟/ ضاعَ الطريقُ وكان الثلجُ يغمرني والروحُ مقفرةٌ والليلُ في رَشَحِ/هذي الحقيبةُ عادت وحدَها وطني ورحلةُ العمر عادت وحدَها قَدَحِي/أصابحُ الليلَ مصلوبا على أملٍ أن لا أموتَ غريبا مِيْتَةَ الشَبَحِ.