http://anapress.net/a/945447034835999
عائلة "أبو القاسم" نموذج صغير لمئات العائلات السورية التي فقدت القسم الأكبر من أفرادها خلال الحرب في سوريا، لتصبح نموذجاً للبؤس والمعاناة ألماً على من فقدت، فشبح أفرادها الذين قضوا بطرق متنوعة أفرزتها الحرب السورية، لا يكاد يغادر أي جزء من أركان بيتهم الصغير، لا سيما أبو القاسم العجوز المسن الذي تسبب فقده لزوجته وأولاده بفترات متقاربة، أفرز تبعات عدة أهمها المرض واليأس وحب العزلة والانطواء.
أبو القاسم الرجل السبعيني من قرية القصّابية في ريف ادلب الجنوبي، أقام منذ بداية الأحداث في سوريا في بلدة كفرنبودة بريف حماة عندما كانت يعمل مع أولاده في رعي الغنم والزراعة بسبب فقر قريته وافتقارها لجميع المقومات، حيث كانت البلدة تحت سيطرة جيش النظام، عندما ذهبت زوجته لشراء الدواء من أحد صيدليات المدينة، وكانت الأوضاع متوترةً بسبب المناوشات بين النظام والثوار، فقام أحد عناصر النظام برشقها بست رصاصات استقرت في جميع أنحاء جسدها دون سبب يذكر.
كان ولدها محمد أول من علم بمقتلها، بقيت محاولات سحب جثتها أكثر من ثلاث ساعات حتى انسحب الجيش إلى حواجزه في البلدة، وبعد سحب جثتها وفي الطريق أوقفهم حاجز للنظام أصرّ على رؤية الجثة ومعرفة السبب والتنصل من مسؤولية قتلها لولا صراخ ابنتها فسمح لهم بالعبور، وتم دفنها في قريتها في مساء اليوم ذاته، بعد أن كانت صعقةً لأولادها وزوجها الذي أغمي عليه وتأثر كثيراً بمقتلها بهذه الطريقة.
بعد عام تقريباً من مقتل الأم فجعت العائلة ذاتها بولدها "عبد القادر" الذي كان يرعى الغنم قرب منزله في قرية القصابيّة، عندما كانت المنطقة تشهد معارك بين الثوار وقوات النظام في المنطقة، وقيام حواجز النظام باستهداف جميع القرى القريبة من نقاط الاشتباك بشكل جنوني، فسقطت إحدى هذه القذائف بالقرب من "عبد القادر"، أدت إلى مقتله على الفور بعد تشوهات كثيرة في جسده بسبب الشظايا التي أصابته، ولم يعلم أهله بمقتله إلا بعد عودة الأغنام إلى المنزل دون الراعي، فخرجوا ليبحثوا عنه في الأراضي المجاورة وإذا به ملقّحاً على وجهه وقد فارق الحياة، فكانت الصعقة الثانية للأب والعائلة كلها.
لم يمض أكثر من شهرين حتى فجعت العائلة بفقيدها الثالث، وكان هو أحمد الولد البكر لأبو القاسم، الذي قضى بالطريقة ذاتها التي قتل فيها أخوه الأصغر عندما كان يرعى الغنم وانفجرت به قنبلة عنقودية من مخلفات القصف الجوي، حيث سارع إخوته إليه وإذا بالقنبلة قد فتحت فوهةً في صدره، لكنه لم يفارق الحياة بعد.
فسارعوا إلى إسعافه إلى أقرب مستشفى في المنطقة، والذي بدوره قام بتضميد جراحه ووضعه في سيارة إسعاف خارجي وتحويله إلى مستشفى باب الهوى الحدودي مع تركيا، بسبب عدم توفر الإمكانيات لعلاجه بحكم وضعه السيء، وخلال توجه سيارة الاسعاف إلى المستشفى برفقة أخيه الأصغر، لاحظوا أن جسده قد برد ونفسه توقف، فأدخلوه إلى عيادة أحد الأطباء في قرية إحسم بجبل الزاوية، حين أخبرهم الطبيب بأنه توفي منذ ربع ساعة، فعادوا به إلى قريته ليدفن هو الآخر بالقرب من أمه وأخيه، ولتنكب العائلة بفقيدها الثالث.
لم تكن الفواجع الثلاث بالأمر السهل على العائلة عموماً وعلى الشيخ أبو القاسم خصوصاً بحكم كبره في السن وتوغل المرض في جسده حزناً على زوجته وأولاده، حيث بات لا يبرح غرفته الصغيرة ولا يجالس أحداً بعد المصاب الكبير الذي حلّ به والذي أسفر عن تشتت عائلته كلّها، كما بات أبو القاسم كفيلاً لأرملتين وستة أولاد وهم أحفاده، أبناء ولده البكر أحمد.
عائلة أبو القاسم نموذج صغير يلخص معاناة مئات العائلات في سوريا، فجعت بفقد أفراد منها، وبعضها قضى بشكل كامل، بسبب الحرب العنيفة التي تشهدها سوريا، حيث أسفر مقتلهم عن تبعات كبيرة على من بقي حيّاً منهم، لا يعلم حاله إلا من خاض غمار التجربة ذاتها.